فصل: تفسير الآية رقم (189):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (172- 176):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [172- 176].
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً} أي: عظيماً غير معهود، هلكوا به: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} وهم أهل مدين. ووهمَ من زعم أنهما أمتان أرسل إليهما شعيب عليه السلام: فإنهم أمة واحدة كانوا يقطنون مدين أضيفوا إليها تارة وأخرى إلى ما حوتها من الأيكة، وهي الأشجار الكثيرة الملتفة المجتمعة في مكان واحد.
قال الحافظ ابن كثير: والصحيح أنهم أمة واحدة. وصفوا في كل مقام بشيء. ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء. فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.
تنبيه:
قال أبو عَمْرو: وكتب في جميع المصاحف {ليكة} في الشعراء و(ص)، بلام من غير ألف قبلها. وفي الحجر وق: {الأيكة} ولذا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بلام مفتوحة، من غير همز قبلها ولا بعدها. ونصب التاء غير منصرف. والباقون {الأيكة} بإسكان اللام وهمز وصل قبله، وهمزة قطع مفتوحة بعده، وجر التاء. وحمزة وصلاً ووقفاً على أصله. وقراءة الأولين استشكلها أبو علي الفارسيّ وغيره، بأنه لا وجه للفتح. لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الإعراب من الكسر إلى الفتح. أي: فإن العرب تقول في الأحمر الحمر ولحمر وإثبات الألف واللام في الأيكة في سائر القرآن يدل- كما قال الزجاج- على أن حذف الهمزة منها التي هي ألف الوصل، بمنزلة قولهم: لحمَر وقرئ {ليكة} بالجر على الإضافة في غير السبع. لكن قال الزمخشري: هو الوجه. ومن قرأ بالنصب، وزعم أن {ليكة} بوزن ليلة، اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه. وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ. كما يكتب أصحاب النحو- لأن ولولي- على هذه الصورة، لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل. والقصة واحدة. على أن ليكة اسم لا يعرف. انتهى.

.تفسير الآيات (177- 181):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [177- 181].
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ} أي: أتموه: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أي: حقوق الناس بإعطائهم ناقصاً.

.تفسير الآيات (182- 183):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [182- 183].
{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي: بالميزان السويّ: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي: لا تنقصوهم حقوقهم. قال الزمخشري: وهو عام في كل حق ثبت لأحد، أن لا يهضم. وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه، ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه، إلا بإذنه تصرفاً شرعياً {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي: بالقتل والغارة وقطع الطريق والجور والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.

.تفسير الآيات (184- 186):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [184- 186].
{وَاتَّقُوا} الله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} أي: وذوي الجبلة الأولين، وهم من تقدمهم من الخلائق: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي: فيما تدعيه من النبوة.

.تفسير الآيات (187- 188):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [187- 188].
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} قطعاً منها. قرئ كسْفاً بسكون السين وتحريكها. وكلاهما جمع كسفة: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: من الكفر والمعاصي، وبما تستوجبون عليها من العذاب، بإسقاط كسف أو غيرها مما يشاؤه إذا جاء أجلكم، فإليه الحكم.

.تفسير الآية رقم (189):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [189].
{فَكَذَّبُوهُ} أي: فاستمروا على تكذيبه ولم يتوبوا: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: لحلول العقاب فيهم، من جنس ما سألوه، من إسقاط السماء قطعاً عليهم. فقد أظلتهم سحابة أطبقت عليهم، وأظلمت الجوّ فوقهم، وغشيهم العذاب وأحاط بهم. والظلة بالضم لغةً، الغاشية، وما أطبق وستر من فوق.
قال الحافظ ابن كثير: ذكر تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن. كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق. ففي الأعراف ذكر أنهم: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91]، وذلك لأنهم قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88]، فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وفي سورة هود قال: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94]، ذلك لأنهم استهزؤوا بنبي الله في قولهم: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء. فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وههنا قالوا: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} [187] الآية، على وجه التعنت والعناد. فناسب أن يحقق عليهم ما استعبدوا وقوعهُ: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}. انتهى.

.تفسير الآيات (190- 191):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [190- 191].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي: على أخذ العصاة بمقتضى أعمالهم: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي: الغالب على تعذيب من شاء بما شاء، الرحيم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لئلا يكون للناس على الله حجة.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة، في أول كل قصة وأخرها، ما كرر؟
قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به. ولأن في التكرير تقريراً للمعاني في الأنفس، وتثبيتاً لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفيظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها؟
وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب، وأرسخ في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان. ولأن هذه القصص طرقت بها أذان وُقْرٌ عن الإنصات للحق، وقلوب غلفٌ عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير. لعل ذلك يفتح أذناً، أو يفتق ذهناً، أو يصقل عقلاً طال عهده بالصقل أو يجلو فهماً قد غطى عليه تراكم الصدأ. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (192- 195):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [192- 195].
{وَإِنَّهُ} أي: ما ذكر من الآيات الناطقة بالقصص المحكية، أو القرآن المتضمن لها: {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: منزل منه حقاً: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} أي: جبريل عليه السلام: {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي: منتظماً في سلك أولئك المشهورين بتلك المزية الجليلة، والمنقبة الفاضلة. وهي الرسالة الإلهية بالإنذار، إزالة للأعذار: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي: واضح المعنى جليّ المفهوم، ليكون قاطعاً للعذر، مقيماً للحجة، دليلاً إلى المحجة. والجار متعلق بنزل.

.تفسير الآيات (196- 197):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [196- 197].
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} أي: في كتبهم. مع أنه صلوات الله عليه لم يصحب أهلها ولم يدرسها. فكفى بذلك شهيداً على صدقه: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} أي: علامة على تنزيله الحق: {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} أي: فيجدون مصداقه في زبرهم التي يدرسونها، كما قال تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 53].

.تفسير الآيات (198- 209):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [198- 209].
{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أي: ولو نزلناه بنظمه البديع على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فقرأه عليهم قراءة فصيحة، انقتق لسانه بها، خرقاً للعادة، لكفروا به كما كفروا. ولتمحّلوا لجحودهم عذراً. ولسموه سحراً، لفرط عنادهم: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي: مكّنا هذا العناد والإباء عن الإيمان به، في قلوبهم وأنفسهم. وقررناه فيها: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أي: وهو ما هو، عياذاً به منه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} أي: من طوال الأعمار وطيب المعايش: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ذِكْرَى} أي: رسل ينذرونهم لأجل الموعظة والتذكرة: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: فنبغتهم بالعذاب قبل الإنذار، فإن ذلك محال في حكمة الحكم العدل.

.تفسير الآيات (210- 213):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [210- 213].
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ردّ لما زعمه المشركون من أن التنزيل الكريم من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين. وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ} أي: الاستماع عن الملائكة: {لَمَعْزُولُونَ} لانتفاء الاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق علهم، لخباثة نفوسهم بالذات، فهم مرجومون مبعدون عن الأنوار القدسية والبراهين السبوحية: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} في الدارين، عذاب تعديد الوجهة، واضطراب الفكر، وضعف الشبهة، وتوهين العقل في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

.تفسير الآيات (214- 219):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [214- 219].
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أي: الأدنين. وإنه لا يخلص أحداً منه إلا إيمانه بربه عزّ وجلّ. وقد قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه: «يا فاطمة ابنة محمد! يا صفية ابنة عبد المطلب! لا أملك لكم من الله شيئاً. أنقذوا أنفسكم من النار». وقد بسط الأحاديث الواردة في ذلك، ابن كثير. فراجعه. وقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: ليّن جانبك لهم. مستعار من حال الطائر. فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي: من النوم إلى التهجد: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أي: المصلين. أي: تصرفك فيما بينهم بالقيام والركوع والسجود، إذا أممتهم. يعني: يراك وحدك ويراك في الجمع. والتوصيف بذلك للتذكير بالعناية بالصلاة ليلاً وجمعاً وفرادى. أو معنى الآية: لا يخفى عليه حالك، كلما قمت وتقلبت مع الساجدين، في كفاية أمور الدين. أو هي كناية عن رعايته صلوات الله عليه، والعناية به. كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَاُ} [الطور: 48].

.تفسير الآيات (220- 222):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [220- 222].
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: لما تقوله وبما تنويه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} أي: تتنزل وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي: كذاب في قوله، في الكلام من وجه إلى آخر، ولا يبالي بذلك. لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله. وحيث كان المقام النبويّ منزهاً عن ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه.
قال القاشانيّ: لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والقدر والخيانة وسائر الرذائل. فمن تجرد عن صفات النفس، وترقى إلى جناب القدس، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع. فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى، مرجومون بشهب الأنوار القدسية. وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} تقرير لقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية، المستمدة من الشياطين بالمناسبة، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية. انتهى.